دعم الموسوعة:
Menu

 

ثورة الحسین و ثروة المعرفة

 

 عنوان رسالة تقریظیة بعثها العلامة المفضال الدکتور الخطیب الشیخ حسن بن موسى الصفار [1] ، متفضلاً تقییم کتاب "دائرة المعارف الحسینیة"

 

 

بسم الله الرحمن الرحیم

 

إن أهمیة أی حدث من الأحداث إنما تتحدد وفقاً لحجم آثار ذلک الحدث و مستوى التفاعلات التی یخلقها فی الحیاة الاجتماعیة ، فالآثار الأکبر تکسب الحدث أهمیة أعظم.

 و تتفاوت الأحداث فی مدى تأثیراتها من حیث المساحات الزمانیة و المکانیة و الاجتماعیة ، فالمدى الأوسع للتأثیر یعطی حجماً أکبر للحدث المؤثر .

 و لا تقتصر هذه المعادلة على الجانب الدنیوی بل انها فاعلة حتى فی المجال الدینی و عالم الثواب و العقاب فی الآخرة ، لما ورد فی الحدیث عن رسول الله (صلى الله علیه و آله و صحبه و سلم) أنه قال : " من سنّ سُنّةً حسنة فعمل بها کان له أجرها و مثل أجر من عَمِلَ بها لا ینقص من أجورهم شیئاً ، و من سنّ سُنّةً سیئة فعمل بها کان علیه وزرها و وزر من عَمِلَ بها لا ینقص من أوزارهم شیئاً " [2] .

 و مثله ما روی عن الإمام محمد الباقر (علیه السلام) أنه قال: " من سنّ سُنّة عدل فاتُّبع کان له مثل أجر من عمل بها من غیر أن ینقص من أجورهم شیء ، و من سنّ سُنّةَ جَورٍ کان له مثل وزر من عمل به من غیر أن ینقص من أوزارهم شیء " [3] .

 إنطلاقاً من هذه الحقیقة فان ثورة الإمام الحسین (علیه السلام) تنفرد فی عالم الأحداث و الثورات بما أفرزته من آثار کبیرة و انعکاسات واسعة تجعلها فی صدارة الأحداث الأهم فی تاریخ الأمة الإسلامیة بل و التاریخ البشری بشکل عام.

 لقد تجاوزت تفاعلات ثورة الحسین حدود المکان و حواجز الزمان ، و اختلاف الشعوب و الأقوام ، و لا تزال تموجاتها متلاحقة متتابعة فی مختلف بقاع الأرض ، و على مساحة بشریة کبیرة متنوعة فی أعراقها و قومیاتها رغم مرور أربعة عشر قرناً من التاریخ.

 

التأثیر الفکری و الثقافی:

 لم تکن قضیة الإمام الحسین صراعاً على سلطة أو ملک ، و لا مواجهة تستهدف عائلة أو شخصاً فی موقع الحکم ، إذاً لانتهت بانتهاء طرفی الصراع و المواجهة ، کما هو حال سائر النزاعات السیاسیة و المصلحیة ، بل کانت قضیته رسالة و مبدأ ، ثار الحسین للدفاع عنها ، و نهض للتبشیر بها ، حیث رأى أمة جدِّه تنسلخ من رسالة الإسلام و تسودها أجواء مخالفة لقیمه و مفاهیمه ، و تحکمها فئة مخالفة لهدیه و تشریعاته . فانطلق صادعاً بالحق داعیاً إلیه ، مبیناً معالمه ، و کانت سیرته و مواقفه ( علیه السلام ) التی توّجها بالشهادة فی سبیل الله ، أفضل أنموذج و شاهد یقدمه للأمة و التاریخ على صدق نهجه و سلامة خطه .

 کان الإمام الحسین حریصاً على توعیة الأمة بدینها و بواقعها السیاسی ، و کان یهمه تبیین حقائق الإسلام و شرائعه ، لینطلق الناس منها فی حیاتهم و مواقفهم ، لذلک حفل سجل النهضة الحسینیة بالکثیر من الخطب و الرسائل و الکلمات و المحادثات و الشعارات و أراجیز الشعر و مقاطعه ، إنها ثورة فکریة ثقافیة واسعة تطال مختلف جوانب المعرفة و الحیاة .

 

على الصعید الدینی:

 أعادت طرح موقعیة أهل البیت ( علیهم السلام ) فی الأمة ، بعد فترة من التجاهل و التنکر لحقهم و لدورهم ، رغم تأکید القرآن الکریم على طهارتهم " إنما یرید الله لیُذهب عنکم الرجس أهل البیت و یطهرکم تطهیرا " [4] ، و على مودتهم کأجر الرسالة " قل لا أسألکم علیه أجراً إلا المودة فی القربى " [5] . و على رغم الأحادیث و الوصایا المتکررة من رسول الله ( صلى الله علیه و على آله و صحبه و سلم ) فی حق أهل بیته ، کالحدیث الصحیح الذی رواه مسلم فی صحیحه عن زید بن أرقم قال : " قام رسول الله ( صلى الله علیه و آله و صحبه و سلم ) یوماً فینا خطیباً ، بماءٍ یدعى خُمّاً بین مکة و المدینة ، فحمد الله و أثنى علیه ، و وعظ و ذکّر ، ثم قال : أما بعد ألا أیها الناس فإنما أنا بشر یوشک أن یأتی رسول ربی فأجیب ، و أنا تارک فیکم ثقلین أولهما : کتاب الله فیه الهدى و النور فخذوا بکتاب الله ، و استمسکوا به ، فحث على کتاب الله ، و رغّب فیه ، ثم قال : و أهل بیتی أذکِّرکم الله فی أهل بیتی ، أذکّرکم الله فی أهل بیتی" [6] .

 و قد بلغ التجاهل و التنکر لأهل البیت ( علیهم السلام ) ، ذروته حینما آل الأمر لبنی أمیّة ، فخططوا لمحو ذکرهم و تشویه سمعتهم و صورتهم أمام الرأی العام ، بتشجیع وضع الأحادیث و خلق التهم و الافتراءات ، و الإشادة بغیر أهل البیت ، لصرف الأنظار عنهم .

 لکن هول المأساة التی حصلت فی کربلاء أحدثت صدمة عنیفة لعقول و مشاعر أبناء الأمة الإسلامیة ، و لفتت أنظارهم و اهتمامهم و عواطفهم صوب أهل البیت ( علیهم السلام ) ، من هنا یمکن القول أن خط أهل البیت و مذهبهم إنما تبلور و تمیّز من خلال واقعة کربلاء ، و التأثیر الذی ترکته فی وجدان الأمة و أفکارها .

 

على المستوى السیاسی:

 أعادت ثورة الإمام الحسین فتح ملف الخلافة و الحکم ، و المواصفات التی یجب أن تتوفر فی قیادة الأمة ، و المنهج الذی یجب أن تسیر علیه ، و موقف الأمة من انحراف الحکم عن شریعة الله و قیم الدین .

 فالحسین الذی تربى فی أحضان جده رسول الله ( صلى الله علیه و آله و صحبه و سلم ) و نهل من نمیر علمه و أدبه ، و هو سبطه و حبیبه ، و قد قال فی حقه بمرأى و مسمع من الأصحاب ما أورده ابن ماجه فی سننه عن یعلى بن مرة ، أنه ( صلى الله علیه و آله و صحبه و سلم ) قال : " حسین منّی و أنا من حسین ، أحبّ الله من أحبّ حسیناً ، حسین سبط من الأسباط " . و فی الزوائد : إسناده حسن رجاله ثقات ، و أخرجه الترمذی و قال : حدیث حسن [7] .

 الحسین هذا ، لا یمکن أن یقدم على حرکة بهذا الحجم من المستوى و التأثیر ، إلا أن یکون له منطلق شرعی سلیم ، و رؤیا مبدئیة واضحة . و قد شکل ذلک دافعاً لطلائع الأمة و نخبها الواعیة ، بأن تتجاوز الأجواء التی صنعها الأمویون ، لکی تقبل الأمة بحکمهم کأمر واقع ، و تخضع لهم کولاة للأمر ، و أن تتم مراجعة رأی الإسلام و رؤیته فی الخلافة و الحکم على ضوء الکتاب و السُنّة .

 

فی الجانب الاجتماعی:

 قدمت حرکة الإمام الحسین منظومة مناقبیة جدیدة تنبثق من روح المسؤولیة و الالتزام الأخلاقی ، فی مقابل سیطرة الروح الأنانیة و المصلحیة و الانتهازیة ، و تتجلى هذه المقابلة و المواجهة فی أخلاقیات المعسکرین : أنصار الحسین ، الذین رفضوا الإغراءآت و المساومات ، و وقفوا وقفة عزّ و فداء ، دفاعاً عن الدین و المصحة العامة ، و فی الطرف الآخر : الجیش الأموی ، الذین دفعتهم المطامع و المصالح لارتکاب أفظع الجرائم و الآثام ، و کانوا یتسابقون إلى المناصب و الغنائم على حساب ضمائرهم و مبادئهم و أمتهم .

 

المعارف الحسینیة:

 هذا التأثیر الفکری الثقافی الکبیر الذی ترکته ثورة الإمام الحسین فی أوساط الأمة ، خلق موجاً هائلاً و حرکة معرفیة ضخمة ، لا تزال تتواصل و تنمو و تتراکم ، ضمن مختلف أبعاد المعرفة ، مما وفّر للإسلام و الأمة ثروة معرفیة کبیرة ، لها مؤسساتها الخاصة ، و تمویلها الأهلی الذاتی ، و مدارسها المتخصصة ، و مواسمها الدائمة و المتکررة ، و تقالیدها و أعرافها .

 فالحسینیة أو المأتم عی فی الحقیقة مؤسسة ثقافیة اجتماعیة ، و خطباء المنبر الحسینی هم شریحة متفرغة للتوجیه و التثقیف الاجتماعی ، و الأوقاف الضخمة باسم الإمام الحسین ( علیه السلام ) هی مصدر ثابت لتمویل هذا النشاط المعرفی المتجدد .

 أما فی الحقل الأدبی فحدِّث عن الإنتاج و الإبداع فیه و لا حرج ، حیث فجّرت واقعة کربلاء بمآسیها المفجعة و بطولاتها الملهمة ، قرائح الشعراء ومواهب الأدباء ، منذ الأیام الأولى للواقعة، و تواصلت على مدى الأجیال ، و بمختلف الألسنة و اللغات ، و ضمن شتى ألوان الأدب و أشکاله من نثر أو شعر .

 کما تشتمل هذه الثروة المعرفیة على رصید ضخم من الکتابات و البحوث التاریخیة التی اهتمت بنقل أحداث السیرة الحسینیة و ما یرتبط بها من تراجم الأشخاص ، و تحدید الأمکنة و البقاع ، و تصویر القضایا و الأوضاع .

 و فی المجال العقائدی و الدینی تضمنت المعارف الحسینیة الکثیر من المفاهیم و الرؤى التی حوتها الأحادیث و الروایات و نصوص الزیارات الواردة لمشاهد و أضرحة شهداء کربلاء .

 و مما یعطی لهذه الثروة المعرفیة أهمیة فریدة من نوعها ، تجاوب الجمهور الشعبی معها ، حیث یتفاعل جمهور عریض واسع من أبناء الأمة المحبین لأهل البیت ( علیهم السلام ) ، مع مناسبات و مواسم الذکرى الحسینیة ، کعاشوراء و العشرین من صَفَر ، و سائر أوقات الزیارات المندوبة ، حسب ما ورد فی آثار أهل البیت ( علیهم السلام ) .

 هذا التفاعل الجماهیری الهائل ، الذی یحصل باندفاع ذاتی ، و من قِبَل کل الشرائح الاجتماعیة : الرجال و النساء ، الکبار و الصغار ، و الأثریاء و الفقراء ، و المثقفون و العادیون … لا تکاد تجد شبیهاً له فی أی برنامج اجتماعی ثقافی ، لدى أی أمة من الأمم ، مما یکسب المعارف الحسینیة حرکة ممیزة ، و تفاعلاً إنسانیاً شاملاً ، و لیس کسائر المعارف و العلوم التی قد یتم التعاطی معها ضمن نخبة أو طبقة معینة .

 

التنظیم و التحقیق:

 هذه الثروة المعرفیة الضخمة التی هی نتاج لثورة الحسین ، و صدى لحرکته المبارکة ، تحتاج إلى اهتمام و استثمار لتأخذ موقعها المناسب فی عالم المعرفة و الثقافة الإنسانیة ، خاصة و نحن نعیش الآن فی عصر الاتصالات و الثورة المعلوماتیة .

 إن المعارف الحسینیة بحاجة إلى تنظیم یجمع شتاتها المتناثر على مساحات الأزمنة و الأمکنة و اللغات و الأقوام ، و إلى برمجة لتصنیف المفردات و المضامین ، کما هی بحاجة إلى تحقیق علمی عمیق ، یُبرز کل جانب منها فی إطار موضوعی مناسب ، و یتناول أبعادها المتنوعة بالتحلیل و التمحیص ، و تلک مهمة خطیرة شاقة لا یغامر بالتفکیر فیها و الإقدام علیها کل أحد … بل تحتاج إلى همّة قعساء ، و رأی ناضج ، و خبرة علمیة واسعة .

 و فی حوزاتنا العلمیة رعاها الله ، علماء أفذاذ و عقول نیّرة ، تعشق العلم و المعرفة ، و تتقن التمحیص و التحقیق ، إلا أنها تحصر اهتمامها فی الغالب ضمن حدود البحوث الأصولیة و الفقهیة ، تفریعاً لمسائلها و استقراءً لأدلتها ، و مناقشة للآراء المطروحة و المفترضة فیها … کل ذلک بعمق علمی ، و دقّة متناهیة تثیر الدهشة و الإعجاب .

 لکن ما یبعث على التساؤل هو تزاحم هذه العقول الجبارة و إقبالها على حقل علمی واحد هو الفقه و أصوله ، و العزوف عن بقیة حقول العلم و المعرفة الإسلامیة و الإنسانیة ، مما جعل إنتاج حوزاتنا العلمیة فی تلک المجالات محدوداً .

 و حینما تخطى بعض أقطاب الحوزة العلمیة مجالی الفقه و الأصول ، و مارس اجتهاده و إبداعه فی الحقول المعرفیة الأخرى ، قدم للأمة و للعلم إنتاجاً ممیزاً سدّ فراغاً خطیراً ، کما هو الحال فی توجه العلامة السید محمد حسین الطباطبائی لتفسیر القرآن ، حیث یعتبر کتابه " المیزان فی تفسیر القرآن " من أروع التفاسیر و أعمقها … و العلامة الشیخ عبد الحسین الأمینی الذی توجّه لبحث موضوع الإمامة ، فألّف موسوعته الخالدة " الغدیر فی الکتاب و السُنّة و الأدب " و العلامة الشیخ أغا بزرک الطهرانی ، الذی اهتم بتراث أتباع أهل البیت و تراجم أعلامهم ، فأصدر موسوعتیه " الذریعة إلى تصانیف الشیعة " و " طبقات أعلام الشیعة " … و الإبداع العلمی الذی قدّمه الإمام الشهید السید محمد باقر الصدر فی " فلسفتنا " و " اقتصادنا " و " الأسس المنطقیة للإستقراء " .

 کان علماؤنا السابقون یعیشون أفقاً واسعاً ، و اهتماماتهم العلمیة کانت شاملة ، لذلک خلفوا تراثاً علمیاً فی مختلف مجالات المعرفة و کان الفقه و الأصول من مجالات اهتماماتهم ، لکن لا على سبیل الانکفاء ضمنه ، و الانحصار فی دائرته ، کما یتضح ذلک لمن یقرأ آثار الشیخ المفید ، و السید المرتضى ، و الشریف الرضی ، و الشیخ الطوسی ، و العلامة المجلسی ، و غیرهم .

 انه لا یمکن الاستهانة بعلمی الفقه و الأصول ، و لا التقلیل من شأن الجهود الجبارة التی بذلها العلماء فی بحث مسائل هذین العِلْمَین و بلورتها ، و لکن الانحصار فیهما حَرَمَ الأمة و العلم من إسهام العلماء المجتهدین فی تطویر سائر حقول المعرفة ، سوى توجه بعض من أشرنا إلیهم من العلماء المجددین .

 

الإنجاز الرابع:

 و على خطى العلماء الموسوعیین الرواد ، تأتی مبادرة العلامة الشیخ محمد صادق الکرباسی ، فی التصدی لهذه المهمة الخطیرة الشاغرة ، تنظیم و تحقیق المعارف الحسینیة ، حیث ألهمه الله العزم و منحه التوفیق لاتخاذ قرار إصدار دائرة المعارف الحسینیة ، و لأن ذلک القرار یعنی أن یهب حیاته و وجوده ، و أن یجنّد وقته و طاقته للقیام بهذه المهمة العظیمة ، و حقاً انه قرار عظیم و جریء ، و یشکل إنجازه فتحاً کبیراً فی عالم المعرفة ، و خدمة جلیلة لمقام سید الشهداء الحسین بن علی ( علیه السلام) .

 إن الرقم الذی وصلت إلیه مجلدات " دائرة المعارف الحسینیة " حسب مخططها یزید على الخمسمائة مجلداً ، و قد یصل إلى سبعمائة مجلداً ، و هی بهذا تضرب الرقم القیاسی فی تاریخ الموسوعات من الشرق و الغرب . فأکبر موسوعة تتحدث عنها المصادر فی تاریخ العالم هی موسوعة " الدراسة العامة للآثار الأدبیة " التی أصدرها فی الصین ( مادوانلین ) عام 1273 م و التی بلغت 348 مجلداً .

 و إذا ما تجاوزنا الکم إلى الکیف ، فان ما صدر من مجلدات " دائرة المعارف الحسینیة " یحکی عن علم غزیر و قدرة تحقیقیة و إطلاع معرفی واسع ، و مقدمة کل باب أو فصل تشکل منهجیة إبداعیة فی بحث ذلک الموضوع ، کما أن جزالة التعبیر و الأسلوب تعکس مستوى متقدماً من الأدب الرزین ، و المعالجة الموضوعیة لأبحاث بعضها شائک و حساس .

 

المعاضدة و الدعم:

 هذه المبادرة العظیمة و الإنجاز الرائع الذی یسعى إلیه الشیخ الکرباسی لتحقیقه ، و الذی استبشر الوسط العلمی و الأدبی ببعض ثماره الیانعة ، ممثلة فی المجلدات القلیلة المطبوعة ، إن ذلک یحمِّل الواعین من أبناء هذه الأمة و محبّی الإمام الحسین ( علیه السلام ) مسؤولیة المعاضدة و الدعم .

 إن تراث کربلاء و المعارف الحسینیة متناثرة فی مختلف البقاع و الأصقاع ، و لدى مختلف المجتمعات و الشعوب ، و بعضها ذهب أدراج الریاح ، و البعض الآخر معرّض للضیاع و الإهمال ، و ما دام قد قیّض الله تعالى لهذا التراث المعرفی الضخم مَن یتصدى لِلَمّ شمله و جمع شتاته ، و تنظیم فنونه و أبوابه ، و عرضه للعالم بشکل حضاری لائق ، فعلینا جمیعاً کل فی موقعه و حسب قدرته ، أن نأخذ موقف المعاضدة و الدعم .

 و الجدیر بالذکر أن هناک أوقافاً کثیرة باسم الإمام الحسین فی مختلف البلدان و المناطق ، و لها دخل مالی کبیر ، و من المناسب جداً أن یُصرف شیء من وارد تلک الأوقاف فی هذا المشروع الحسینی الحضاری ، بل لعله من أفضل المصارف . کما یتسابق الکثیرون من محبّی الإمام الحسین إلى البذل و العطاء فی خدمة الشعائر الحسینیة ، من إقامة العزاء ، و الإطعام ، و الزیارة ، و هی برامج هامة ینبغی المحافظة علیها …… . و التشیع باتجاهها ، لکن ینبغی بالإضافة إلیها أن نوجه أنظار هؤلاء المحبین إلى أن قضیة الإمام الحسین تحتاج فی هذا العصر إلى طرح علمی حضاری ، و هذا المشروع " دائرة المعارف الحسینیة " یأتی ضمن هذا السیاق ، فیجب أن یتوجه المحبون العاشقون للحسین ( علیه السلام ) نحو هذا المشروع بالبذل و العطاء ، استمراراً لهذه المسیرة الحسینیة المبارکة عبر أجیال التاریخ ، و حتى نسلِّم الأمانة لأبنائنا و أجیالنا القادمة بالشکل اللائق و المناسب .

 أهنىء الشیخ الکرباسی على إنجازه الرائع ، و أسال الله أن یطیل عُمره و یزید فی توفیقه ، و یتقبّل عمله ، و أن یحقق أمله و آمالنا جمیعاً فی إکمال هذا المشروع الحسینی الحضاری الکبیر .

 

 

16/12/1421 هـ 21/5/2000 م

حسن الصفار

المملکة العربیة السعودیة - القطیف

 

 

 

الخطیب العلامة الصفار یتحدث

 

لقد تحدث سماحة الشیخ حسن الصفار في المجلس الحسیني الذي أقیم في حسینیة العوّامي بالقطیف في 20/2/1421 هـ، بمناسبة أربعینیة الإمام الحسین ( علیه السلام )، عن دائرة المعارف الحسینیة مبیناً أهمیتها وشمولیتها و عمقها.

في محاضرة ألقاها سماحة العلامة الخطیب المفوَّه الشیخ حسن بن موسى الصفار في حسینیة العوامي بالقطیف في الیوم الثالث من شهر محرم الحرام عام 1423 هـ، تحت عنوان " أهل البیت علیهم السلام بین إمامة الدین و إمامة الدنیا " تطرق فیها بالحدیث عن الموسوعة " دائرة المعارف الحسینیة "، جاء فیه:

نحمد الله تعالى أننا ننتمي إلى أهل البیت ( علیهم السلام )، و نسأل الله أن یثبتنا على ولایتهم، و أن یجعل انتماءنا لهم انتماءً صادقا و لیس مجرد إدّعاء. و یجعلنا من السائرین على طریقهم و المقتـدین بهـم.

یجب علینا أن نتحمل المسؤولیة تجاه تراث أهل البیت، هذا التراث العظیم الضخم الذي حورب و حوصر في العصور الماضیة، ینبغي علینا و نحن نعیش في هذا العصر، حیث توفرت الوسائل و الأسالیب و ارتفعت الکثیر من الحجب و ارتفع مستوى وعي الناس. البشریة تستطیع الآن أن تفهم کلام أهل البیت أکثر من الفترات الماضیة. إن معارف أهل البیت بامکانها أن تقدم الکثیر للمسلمین و للبشریة في هذا العصر، و لکن یجب أن نتحمل مسؤولیتنا تجاه هذا التراث. أما کیف ؟ فنقول:

في العصور الماضیة قام علماؤنا جزاهم الله خیرا، حرصا منهم على حفظ هذا التراث، بجمع تراث أهل البیت، فجمعوا الکثیر منه، و الذي أمکن جمعه من خلال مؤلفاتهم. و من المصادر التي وصلتنا: الکتب الأربعة، الوسائل، بحار الأنوار، و مختلف المؤلفات التي جُمع فیها الکثیر من أحادیث أهل البیت وسیرتهم علیهم أفضل الصلاة والسلام.

لکننا في هذا العصر في حاجة إلى بحث و دراسة و تنقیة و غربلة هذا التراث المجموع و إعادة تصفیة، لتقدیمه إلى البشریة بالشکل الذي یفیدها في هذا العصر.

و لاشك أن تراث أهل البیت تعرض لما تعرضت له السُنّة النبویة، کما أن أحادیث رسول الله ( صلى الله علیه و آله) تعرضت للدّس و الوضع، فأصبحت هناك أحادیث مکذوبة على رسول الله ( صلى الله علیه و آله ) باعتراف کل المسلمین، کذلك أحادیث أهل البیت. إن هذا التراث المنقول عن أهل البیت یحتاج إلى غربلة و إلى تنقیة. ینبغي أن یُنشط علم الروایة و الدرایة في حوزاتنا و في مجامعنا العلمیة و خاصة في هذا العصر.

لقد حذّرونا أئمتنا صلوات الله و سلامه علیهم من أن هناك وضّاعون و غلاة، و هناك من دسّ الأحادیث على أهل البیت. هناك حدیث مهم مروي عن الإمام جعفر الصادق سلام الله علیه یقول فیه: إنا أهل بیت صادقون لا نخلو من کذّاب یکذب علینا فیُسقط صدقنا عند الناس بکذبه علینا. و في حدیث آخر روي عن الإمام الصادق ( علیه السلام )، أنه قال: إن المغیرة بن سعید دسّ في کتب أصحاب أبي أحادیث لم یتحدث بها أبي، فاتقوا الله و لا تقبلوا علینا ما خالف قول ربنا عَزَّ و جَلَّ و سنة نبینا محمد ( صلى الله علیه و آله).

توجد روایات عدیدة في مصادرنا رویت عن أهل البیت تحذرنا عن الدّس و الوضع و الاختلاق و عن الغلو الذي حصل في الأحادیث الواردة عن أهل البیت علیهم السلام و التي نُسبت إلیهم.

و یروى عن یونس بن عبد الرحمن أنه قال: دخلت العراق فوافیت جماعة من أصحاب أبي عبد الله الصادق وأصحاب أبي جعفر الباقر علیهما السلام، و سمعت منهم و أخذت من کتبهم ثم عرضتها على الإمام علي بن موسى الرضا ( علیه السلام ) فأنکر منها أحادیث کثیرة، و قال: لعن الله أبا الخطاب ـ أبو الخطاب هذا أحد الغلاة ـ، فانه وأصحابه دسوا في کتب أبي و أصحاب أبي أحادیث مکذوبة مختلقة، فلا تقبلوا عنا ما خالف کتاب الله.

إن هذا التراث یحتاج إلى غربلة، تلك المرحلة کانت مرحلة جمع، و أما الآن فهي مرحلة تصفیة و تنقیة، ینبغي أن تغربل الأحادیث. و لله الحمد، فان علماؤنا في هذا العصر قاموا بخطوات مؤسِّسة. فعلى سبیل المثال قام الإمام السید أبو القاسم الخوئي رحمه الله تعالى بجهد طیب بالنسبة إلى رجال الحدیث، إذ وضع معجم رجال الحدیث في ثلاثة و عشرین مجلدا، استقصى فیها عن جلّ الرواة الذین رووا أحادیث أهل البیت علیهم السلام، فکانت محاولة لوضع کل راو في حجمه و في حالته الطبیعیة، هل هو عدل أو ثـقة أو وضّاع أو کذاب أو ضعیف، أو ما أشبه ذلك. هذا الجهد الکبیر إنما جاء للتأسیس لمرحلة تصفیة و تنقیة هذا التراث. کما یذکرون بأن المرحوم الشهید السید محمد باقر الصدر رحمة الله علیه، کان یرید القیام بمشاریع هامة، منها إنشاء موسوعة تحت عنوان "صحیح أهل البیت ". و بالفعل بدأ بخطوة عملیة إذ شکّل لجنة من الفضلاء و العلماء مهمتها دراسة الأحادیث و الروایات الواردة، و إبعاد تلك الأحادیث المختلقة الموضوعة و المدسوسة حتى یتکون لدینا صحیح أهل البیت، و تنقل هذه الأمنیة أیضا عن مرجع آخر هو السید البروجردي رحمة الله علیه في قم.

إن مثل هذه المهمة تحتاج إلى متابعة و إلى جهود حقیقیة من أجل إبراز محاسن أحادیث أهل البیت. فقد روي عن الإمام علي بن موسى الرضا ( علیه السلام ) أنه قال: أحیوا أمرنا، رحم الله عبدا أحیى أمرنا. قیل و کیف یحیی أمرکم ؟ قال: یتعلم علومنا و یعلمها الناس، فان الناس لو عرفوا محاسن کلامنا لاتبعونا.

هذه الأحادیث المدسوسة ینبغي أن تُبعَّد و تُجنّب، و أن یقدم للأمة و البشریة تلك الأحادیث المختارة التی تکون ضمن دائرة المقبول و ضمن دائرة المناسب. هذا من ناحیة، و من ناحیة أخرى أن تُصنّف هذه الأحادیث و هذا التراث وفقا لاحتیاجات الإنسان المعاصر، کحقوق الإنسان، و شؤون البیئة، و العدالة و الحریة، العلاقات الدولیة، وحوار الحضارات، و ما أشبه، من القضایا المطروحة الآن على مستوى العالم و على مستوى البشریة جمعاء.

هذه مهمة کبیرة یجب أن ینهض بها أتباع أهل البیت. و الحمد لله عندنا أوقاف کثیرة، و حقوق شرعیة أیضا تخص أهل البیت علیهم السلام، و هذا من أفضل مصاریفها.

إذاً لابد أن تکون هناك مراکز بحث، و مراکز دراسات لنشر تراث أهل البیت، لتقدیمه بصورته المشرقة للأمة وللبشریة جمعاء، و ما هذه المناسبة أیام عاشوراء إلا من المناسبات التي ینبغي أن تُستثمر و تُستغل، لتبیین شيء من محاسن علوم و معارف أهل البیت صلوات الله و سلامه علیهم، فان سیرتهم تحتاج إلى دراسة و إلى بحث. مع الأسف، الکثیر إلى الآن من سیرة أهـل البیت تتناقل دون أن تُمحّص أو تُبحث. ومن المعلوم أن التمحیص یحتاج إلى مراکز دراسات، کما یحتاج إلى علماء متخصصین یصرفون جهدهم في هذا المجال، ومن تلك قضیة عاشوراء و قضیة الإمام الحسین ( علیه السلام).

و للتّو فقد تکوّن مرکز لدراسة موضوع الإمام الحسین، باسم " المرکز الحسیني للدراسات في لندن "، و لعلنا أشرنا إلیه في سنوات سابقة، إن هذا المرکز یرید جمع کل ما یرتبط بالنهضة الحسینیة و یشبعه بحثا و تنقیحا وتصنیفا، و لکن مثل هذا المشروع في حاجة إلى تعاون و دعم و تجاوب من قبل المهتمین بتراث أهل البیت صلوات الله و سلامه علیهم.

نسأل الله أن یوفقنا و إیاکم للقیام بشيء من هذه المهمة.